المحامي / محمد سيدي عبد الرحمن إبراهيم
يتداول الموريتانيون منذ سنوات أن الكثير من الأدوية المتوفرة في البلاد غير فعال ويعلل المطلعون ذلك بعدم ضبط عمليات الاستيراد ولجوء عشرات المستوردين لمصادر غير مستمسكة بالأصول مما أدى لإغراق السوق الوطنية بالأدوية والمواد المزورة والمقلدة كما أن الظروف غير الملائمة لحفظ الأدوية وغياب الكادر الصيدلاني المؤهل وضعف الرقابة الحكومية عوامل تضافرت لتتسبب في تفاقم الأزمة لدرجة دفعت المواطنين من ذوي الإمكانات للتنقل للخارج من أجل تلقي العلاج والعمل على استجلاب الأدوية منه.
ومنذ شهور قابلت شخصيا طبيبي بغية أن يخلصني من ضرس تؤرقني منذ مدة فاستغـرب الدكتور حمد كوني استعملت جرعة كبيرة من مضاد حيوي على مدى عشرة أيام دون أن يتراجع الالتهاب وأشار علي بالتوقف عن استخدام الدواء وإن تطلب الأمر أن أتحمل الألم فترة حتى يتخلص جسمي من رواسب المادة غير الفعالة قبل تجربة مضاد حيوي مختلف، عله يكون قد سلم من التلاعب، لأن الاستمرار في تجرع المضادات الحيوية، حتى التي لا غبار عليها، قد يكون أكبر ضررا على الجسم من التهاباته الناجمة عن جراثيم مستوطنة غير فتاكة في الغالب.
ومنذ أيام أطلقت وزارة الصحة الموريتانية حملة استبشر الكثيرون بأنها قد تحد من الفساد والتزوير المستشري في مجال الصيدلة وشاهدنا صور إحراق عشرات أطنان الأدوية بينما فضل بعض أصحاب المستودعات الصيدلية في الداخل التنكر لبضاعتهم بالتخلص منها في مكان قصي مثلما تتخلص بعض الهوالك من أبنائهن تهربا من الإثم والعار.. ومساهمة في الحملة التي أطلقها وزير الصحة الجديد، والتي يعلق الموريتانيون عليها آمالا كبيرة، أتناول أزمة الصيدلة من المنظور القانوني وأمهد للموضوع بالتعريج على خطورة الأدوية والمستحضرات الطبية (أولا) قبل استعراض الخطوط العريضة للنظام القانوني المطبق في مجال الصيدلة (ثانيا) وأخلص أخيرا لوصفة قانونية لعلاج “داء الصيدلة” في موريتانيا (ثالثا).
أولا/ خطورة الأدوية والمستحضرات الطبية
تتميز الأدوية عن غيرها من المواد الاستهلاكية بالخطورة فمنها المواد السامة والمؤثرات العقلية التي تؤثر بشكل نوعي على نفسية الإنسان ومنها المواد المخدرة التي يمكن أن تسبب الإدمان ولتمييز هذه المواد أدرجت في قوائم خاصة يعرفها القانون الموريتاني، على غرار الكثير من الدول، بالجدولين I وII وأوصت المنظمة الدولية الدول بإلزام مسيري الصيدليات بحفظها في دواليب مغلقة وشددت على منع صرفها دون وصفة طبية.. وعلى العموم فإن جل المستحضرات الطبية يشكل خطرا مباشرا أو غير مباشر على الصحة ولا يسلم من آثار جانبية ضارة كما أن لبعضها تأثير وقتي يحد من يقظة المستهلك وفطنته وحتى وعيه. لذلك يسوغ القول إن الأدوية سلاح ذو حدين فبينما يستخدمها الأشخاص الذين ينشدون السلامة للاستشفاء يستخدم بعضها الشواذ المنحرفون كوسيلة تخدير تغيب العقل وربما استخدمها آخرون كأداة انتحار تكفل جرعة منها لهم الانتقال إلى الدار الآخرة.
ولأن الكثير من الموريتانيين دأب على الاشتغال بالتجارة، عندما يفارق ربوعه ويذر قطعانه أو لا يجد فرصة عمل، فقد اتجه بعضهم للاتجار في الأدوية وما يغيب عن أذهان الكثيرين هو أن (التيفاي) الطيب مهما كان حسن النية – يسعى للربح ولا يضمر الشر لغيره – عندما يتجر في الأدوية يسلك سبل الإجرام من حيث لا يحتسب ويعسر عليه أن يسلم من الإضرار بالناس فبعض الأدوية يتطلب وسطا مكيفا كما أنها في مجملها غير مدخرة واستخدامها محدود في الزمان وصلاحيتها تنتهي في آجال يجب الانتباه الدائم لها.. وإذا كان تاجر الخضروات مثلا يجد نفسه مرغما على إبعاد المواد الفاسدة من محله، حفاظا على سمعته، لأن بضاعته تنبئ عن تلفها بالتعفن وانبعاث الروائح فإن الأقراص والسوائل الدوائية تخضع لتفاعلات وتعتريها تغيرات داخلية لا يلاحظها المستهلك رغم ضررها البالغ فقد يحمل قضم قرص أو تجرع ملعقة صغيرة ضررا على الجسم أكبر من ضرر تناول كمية معتبرة من الفواكه أو المنتجات الزراعية العفنة.. وبينما يتهافت الناس في مختلف البلدان على تحصيل المال بشتى السبل لم يتورع البعض عن ممارسة أساليب إجرامية وبالتمالؤ مع بعض المستوردين تتلاعب بعض المعامل والمختبرات الآثمة، الموجودة خارج البلاد غالبا، بمقادير المواد الفعالة في الأدوية لخفض تكلفتها ويقوم البعض بتزوير العلب ومواد التغليف من أجل نسبة المواد الطبية لغير منتجها افتراء على ذوي السمعة والمكانة تارة وتارة أخرى لمجرد طمس تاريخ انتهاء صلاحيتها وربما لزم تخزينها حتى يتيسر التعامل معها وتجد سوقها وكما يقال:
لكل ساقطة في الحي لاقطة *** وكل كاسدة يوما لها سوق
وفي ختام هذا التمهيد أعتذر للأطباء والصيادلة وجمهور المختصين في علم الأحياء عن التطفل على حقلهم فتداخل مختلف العلوم مع القانون الذي “لا يعذر البيولوجيون ولا غيرهم في جهله” يجعل من الوارد إشاعة الثقافة الطبية بين الناس خاصة وأن من الوارد، في هذا الظرف الاستثنائي، تناول الأبعاد القانونية لأزمة الدواء التي تشغل الرأي العام الوطني والتي ارتأيت التمهيد لها باستعراض عابر لما علم بالضرورة، عن الأدوية، من ضرر.
ثانيا/ النظام القانوني للصيدلة في موريتانيا
مجال الصيدلة في موريتانيا منظم بالقانون رقم: 2010-022 الصادر بتاريخ: 10 فبراير 2010 المنشور في عـــــــــــــــــ1219ــــــدد الجريدة الرسمية بتاريخ: 15 يوليو 2010 ويتألف قانون الصيدلة الموريتاني من مائة وثلاث وخمسين مادة (153) وقد تم تعديل مادتيه 143 و149 بالقانون رقم: 2015-029 الصادر بتاريخ: 08 سبتمبر 2015 المنشور في عــــــــــــــ1344ـــــــــدد الجريدة الرسمية الصادر بتاريخ: 30 سبتمبر 2015.
ويجدر بالملاحظة أن نطاق قانون الصيدلة لا يقتصر على الأدوية والمستحضرات الطبية وإنما يمتد ليشمل منتجات التغذية والحمية ومستحضرات التجميل والنظافة.
ومساهمة في تعميم قانون الصيدلة الموريتاني أسرد هنا بعض مقتضياته الأساسية:
1. تعرف المادة: 9 من قانون الصيدلة الدواء بأنه “كل مادة أو مستحضر مقدم على أساس أنه يمتلك خصائص علاجية أو وقائية إزاء الأمراض البشرية أو الحيوانية وكذا كل منتج يمكن وصفه للإنسان أو الحيوان بهدف إجراء تشخيص طبي أو استرداد أو تصحيح أو تغيير وظائفه العضوية”. وتضيف المادة 12: “يقصد بدواء أساسي كل دواء مسجل ضمن اللائحة الوطنية للأدوية الأساسية السارية المفعول وفي حالة غيابها قائمة منظمة الصحة العالمية.
يجب أن يلبي الدواء الأساسي حاجيات غالبية السكان في مجال الصحة.
ويجب كذلك: أن يكون فعالا، – أن يكون ذا جودة مؤكدة، – أن يكون سهل الاستعمال، – أن يكون متوفرا في كل الأوقات، – أن يكون له أقل تأثير جانبي ممكن، – أن يكون في المتناول من ناحية السعــر”.
2. وتتناول المادة: 63 تعريف وبيانات الوصفة الطبية حيث تنص على ما يلي: “يقصد بالوصفة الوثيقة المبينة لوصف الدواء، فالوصفة تكون شخصية وتستهدف مريضا واحدا.
يجب أن تشتمل الوصفة على البيانات التالية:
– اسم الواصف، – مؤهلاته، – عنوانه المهني، – تاريخ الوصفة، – اسم المريض ولقبه، -عمره ووزنه وجنسه، – اسم الدواء بالتسمية الدولية المشتركة أو تحت اسمه التجاري، – الجرعة وشكل الدواء، – الكمية المتناولة وعدد مرات التناول بالنسبة للمريض، – مدة العلاج، – توقيع وختم الواصف”.
3. وفيما يتعلق بالصيدليات تنص المادة: 68 على ما يلي: “يقصد بالمؤسسة الصيدلانية للصرف كل مؤسسة تقوم بصرف الدواء بالتجزئة وكذا تحضير المستحضرات الوصفـية أو الصيدلانية”.
وتنص المادة 80: “يقصد بالصيدلية الخاصة كل مؤسسة صيدلانية مخصصة لتنفيذ الوصفات وبيع الأدوية بالتجزئة وغيرها من المواد المرخصة التي تحدد لائحتها من طرف الوزير المكلف بالصحة”.
وتضيف المادة 81 ما يلي: “تعتبر الصيدلية ملكا لصيدلاني أو عدة صيادلة موريتانيي الجنسية.
ولا يمكن للصيدلاني أن يمتلك أو يشترك في ملكية أكثر من صيدلية واحدة.
يرخص للصيادلة أن يشكلوا شركة مشتركة فيما بينهم بغية استغلال نفس الصيدلية.
لا يمكن لصيدلاني يمتلك صيدلية أن يكون موظفا في القطاع العام”.
4. أما عن شروط افتتاح الصيدليات ونقلها فتنص المادة 85 على ما يلي: “يجب أن يسبق أي افتتاح لصيدلية جديدة الحصول على رخصة صادرة عن الوزير المكلف بالصحة بعد أخذ رأي السلك المتخصص. ويجب أن يشترط منح هذه الرخصة باحترام دفتر الالتزامات الذي سيحدد بمقرر عن الوزير المكلف بالصحة”.
يجب أن يسبق أي تحويل لصيدلية من مكان إلى آخر بالحصول على رخصة صادرة عن الوزير المكلف بالصحة”.
5. وبخصوص المسافات الفاصلة بين الصيدليات فيما بينها وفيما بينها وبين المستشفيات تنص المادة 92 على ما يلي: “المسافة الدنيا بين صيدليتين إلزامية وتبلغ 200 متر على الأقل وذلك على كافة امتداد التراب الوطني،
في حدود وفي شعاع 200 متر من منشأة صحية عمومية لا يمكن الترخيص لأية نقطة لبيع الأدوية.
لا يشمل هذا المنع الصيدليات الإستشفائية أو المشابهة”.
6. وقد حدد المشرع المقصود بالصيدليات الاستشفائية في المادة: 95 التي تنص على ما يلي: “إن المنشآت الصحية التي يعالج فيها المرضى وكذا مؤسسات السجون يمكن أن تتوفر على صيدلية أو عدة صيدليات استشفائية أو صيدليات مماثلة حسب الشروط المنصوص عليها في هذا الفصل”.
7. وفيما يتعلق بشروط إنشاء المستودعات الصيدلية تنص المادة 102 على ما يلي: “لا يمكن إنشاء مستودع صيدلي إلا إذا كان الحيز الجغرافي المحدد بمقرر لا يضم صيدلية.
يتطلب إنشاء مستودع أدوية ترخيصا مسبقا صادرا عن الوزير المكلف بالصحة.
يحدد مقرر العناصر والشروط الضرورية للحصول على هذه الرخصة عند الحاجة”.
وضبط القانون محتويات اللافتات واللوحات الإعلانية للمحلات إذ تنص المادة: 103 على ما يلي: “لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تذكر عبارة أخرى لإعلام وإطلاع الجمهور غير تلك الواردة في رخصة الافتتاح الصادرة عن الوزير المكلف بالصحة، فمثلا لا يمكن وضع عبارة “صيدلية بدل مستودع”.
8. أما بخصوص الرقابة فتنص المادة: 128 على ما يلي: “تخضع مختبرات التحاليل والصيدليات والمؤسسات الصيدلانية ومستودعات الأدوية لمراقبة المفتشية العامة للصحة التابعة للوزارة المكلفة بالصحة”.
9. ويتضمن قانون الصيدلة مقتضيات جنائية متعددة حيث ينص على عقاب كل شخص يقوم باستيراد أو تسويق أدوية منتهية الصلاحية أو مزورة أو غير صالحة للاستهلاك بعقوبات حبس قد تصل مدته ثلاث سنوات وبغرامات مالية تصل عشرة ملايين أوقية وفي حالة العود ترفع العقوبات إلى الضعف (المادة 143 جديدة) حتى من يبيع الأدوية بربح يتجاوز الهامش المسموح به يعاقب بالحبس من شهرين إلى سنة وبغرامة تصل إلى أربعة ملايين أوقية (المادة 143 ثالثا)..
ويجمع العارفون على أنه رغم انقضاء مدة تقارب عشر سنوات على صدور قانون الصيدلة فإن مقتضياته منتهكة على نطاق واسع حيث تكاثر المستوردون وتزايدت أعداد الصيدليات واصطفت، منكبا بمنكب، أمام المستشفيات حتى سولت للبعض نفسه أن يطالب بتعليق القانون متذرعا بعدم تنفيذه مدة طويلة وكأن المفاهيم أضحت معكوسة فالقانون يتقادم بينما تمدد صلاحية الدواء!! ومهما كانت نواقص النصوص فمن غير المقبول عدم احترام القانون لما يستتبع ذلك من فوضى كما نرى في الواقع ولذلك يجب على السلطات العمومية أن تلعب دورها في إنفاذ القانون وفرض احترامه وبالموازاة مع ذلك يتعين التفكير في قانون بديل يتغلب على الثغرات ويحقق ضمانات كافية للتحكم في الدواء الذي يجب أن يظل بعيدا عن المتلاعبين العابثين.. وكما توصي نشرات الكثير من الأدوية على إبعادها عن متناول الأطفال ينبغي أن لا نعامله كالسلع التي يضارب فيها التجار بلا شرط أو قيد.. وسعيا لعلاج داء الصيدلة في موريتانيا أخلص للوصفة القانونية التي وعدت بها أعلاه.
ثالثا/ الوصفة القانونية لعلاج داء الصيدلة في موريتانيا
يختلف مجال الصيدلة عن غيره من المجالات بسبب خطورة بضاعته ويتميز بأنه يتطلب إمكانات مادية وبشرية ولا يستغني من يتجر فيه عن خبرات ووسائل لوجستية تكفل حفظ الدواء في أماكن مناسبة وتوفر مراكب خاصة لنقله كما أنه لا يستغني عن صيادلة عارفين وطاقم بشري مؤهل لمتابعة المخزون يوميا وسحب المواد المنتهية الصلاحية والاستعاضة عنها وعن المواد النافدة ببدائل تكفل توفر الدواء مما لا يمكن الاعتماد فيه إلا على كيانات منظمة يتعين أن تعمل تحت الرقابة اليومية لمصالح الدولة.
لذلك أقترح مباشرة الدراسات لاقتراح نظام قانوني صيدلي جديد يقوم على إنشاء شركات صيدلة كبرى محدودة العدد (أربعا مثلا) تغطي كل واحدة منها كامل التراب الوطني ويفتح رأسمالها للاكتتاب العام مما يتيح للراغبين من ملاك الصيدليات الخصوصية الاندماج فيها وتوكل إدارتها لطواقم مؤهلة، تختار بموضوعية، للقيام بالمهام الإدارية والفنية ويختار لها مفوضو حسابات ومراقبون أكفاء مما يمكن من توفير الإمكانات اللازمة للعمل بحرفية لتوفير المواد الفعالة والمأمونة من مصادر موثوق بها على أن تضطلع السلطات بدورها الرقابي وتعمل على إصدار عدد من التراخيص يتناسب مع عدد المستعملين كي لا يتضرر المستثمر ويستفيد الشركاء ودرءا للتسيب الذي ينعكس سلبا على الصحة العامة.
وبخصوص العدد المثالي للصيدليات يمكن استخلاص العبرة من واقع البلدان المتقدمة بتقدير وسط بين التخمة الصيدلية القائمة في اليونان حيث يبلغ عدد الصيدليات ثمانا وثمانين (88) صيدلية مقابل كل مائة ألف نسمة (100.000) وبين التطفيف الصيدلي المشهود في الدنمارك حيث لا يتجاوز معدل الصيدليات ثمان (8) مستودعات مقابل كل مائة ألف نسمة (100.000).. وربما يكون من المناسب أن نقتبس من قرنائنا الفرنسيين حيث تتزايد أعداد الصيادلة بينما تتبع الدولة سياسة للحد من أعداد الصيدليات مما جعلها تتناقص مؤخرا، سنة تلو أخرى. وبحسب إحصاءات فرنسية موثوق بها، منشورة على موقع الهيئة الوطنية للصيادلة ordre.pharmacien.fr مع مستهل سنة 2019 تتواجد مقابل كل مائة ألف نسمة (100.000) اثنتين وثلاثين فاصل أربعة (32,4) صيدلية وسبعة فاصل ثلاثة (7,3) مختبر ابيولوجي طبي وثلاثة فاصل سبعة (3,7) صيدلية للاستخدام الداخلي بالمستشفيات.. فإذا انطلقنا من أن ساكنة موريتانيا تبلغ 4,5 مليون نسمة فإن عدد الصيدليات فيها يتعين أن يكون في حدود 1440 صيدلية وإذا افترضنا أن شركات الصيدلة الكبرى المرخص لها ستكون أربعا يمكن السماح لكل منها بفتح 360 صيدلية تغطي كافة التراب الوطني بحسب الكثافة السكانية لكل بلدة.
ويجدر بالملاحظة أن اقتراح إنشاء شركات صيدلة كبرى ليس ابتكارا شخصيا وإنما استقيته من مقتضيات المدونة التجارية الموريتانية – موضوع القانون رقم: 05-2000 الصادر بتاريخ: 18 يناير 2000 والمنشور في عـــ970ـــدد الجريدة الرسمية الصادر بتاريخ: 15 مارس 2000 – التي تنص في الفقرة الثانية من مادتها: 339 على ما يلي: “لا يمكن لشركات الصيدلة والبنوك والائتمان والاستثمار والتأمين والرسملة والادخار أن تتخذ شكل شركة ذات مسؤولية محدودة”.. وبالتأمل في الحكمة من هذه المادة يتبين أن المشرع أراد أن لا تمارس أنشطة الصيدلة (شأنها شأن البنوك والتأمين) إلا شركات قوية ذات إمكانات مادية ومقدرات بشرية كافية وكان ينبغي أن تتضمن النصوص الخاصة المنظمة لهذه الأنشطة شروطا مفصلة تضمن وفاءها بالتزاماتها.. ونتيجة لغياب العناية الرسمية والرقابة يجمع الرأي العام الوطني اليوم على فساد قطاع الصيدلة بعدما تهاوى نظام التأمين “غير الصحي” بينما لا يزال القطاع المصرفي يترنح.
وأعتقد أن عدم تفعيل الاشتراك يعد من أكبر أسباب تعثر جهود التنمية في موريتانيا فبدلا من التوسع عن طريق تجمع عدة فاعلين وتكاتف جهودهم لإنشاء شركات قوية – قادرة على العمل بحرفية تمكنها من الصمود والمنافسة وتتيح لها الدفع بالاقتصاد الوطني إلى الأمام – تقلص المستثمرون الوطنيون وانكفأ كل واحد منهم على نفسه فانشطر الشخص الواحد وتبددت جهوده بإنشائه تجمعا اقتصاديا خاصا به وأصبح من المألوف عندنا أن يمتلك رجل الأعمال الواحد مصرفه الخاص الذي يضمن له القروض والعملات والتسهيلات ويمول له شركاته التجارية التي تنشط في مختلف المجالات بدءا من التأمين وانتهاء ببيع الفحم.. وبدلا من أن تقف الدولة في وجه هذه الممارسات الاقتصادية الضارة، حتى بالنسبة لممارسيها لم تعبأ بها ولربما قدمت التسهيلات حتى توسعت المؤسسات الفردية على حساب الشركات مما انعكس سلبا على التنمية الوطنية.
ويخامرني الشك بأن القضاء على الشركات وتشجيع المنشآت الفردية شكل توجها “استراتيجيا غير معلن” كما يعكسه التعديل الذي طال التشريع: فبعد أن كانت الشركة خفية الاسم Société Anonyme التي يعول عليها في المشاريع الكبرى، تتكون بين خمسة مساهمين على الأقل طبقا للمادة 400 قديمة من مدونة التجارة (القانون رقم: 05-2000 الصادر بتاريخ 18 يناير 2000 والمنشور في عـــ970ـــدد الجريدة الرسمية الصادر بتاريخ 15 مارس 2000) فتق الشرط بالفقرة الثانية من المادة 400 جديدة من مدونة التجارة (بموجب القانون رقم 2015-032 الصادر بتاريخ 10 سبتمبر 2015 والمنشور في عـــ 1348 مكررــــدد الجريدة الرسمية الصادر بتاريخ 30 نوفمبر 2015) التي نصت بصراحة على ما يلي: “يجوز أن لا تتضمن الشركة خفية الاسم غير مساهم واحد”.
وجملة القول أن أزمة الصيدلة والتأمين والمصارف وغيرها تكمن في انتهاك القانون الذي لم يسلم من التلاعب خلال السنوات الأخيرة.. وتلك مقالة أخرى يطول فيها الحديث.